تمهيداً لإحراز قصب السبق في الوصول إلى قمة الهرم الخدمي لخطوط الشحن البحري، وذلك من خلال تعزيز خطواتها في اتجاهين متوازيين: الاتجاه الأول ويتمثل بقطف ثمار مراكز البحث والتطوير (R&D)، وتعني: Research & development. ويتمثل الاتجاه الثاني بتوفير البيئة المثالية لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية المباشرة (FDI)، وتعني Foreign Direct Investment.
تمتلك المدن المينائية الثلاث قدرات مذهلة في التغيير الفوري المستمر، وفي الاستجابة السريعة لتطبيق التقنيات الحديثة على نطاق واسع، وتتميز أيضاً بكفاءة عناصرها البشرية العاملة ومهاراتهم العالية، ناهيك عن التأييد الوطني المؤازر لخطوات التجديد في تلك المدن المينائية المتألقة في حلبة الشحن والتفريغ، والدعم المطلق الذي توفره لها حكوماتها المركزية.
لو سلطنا الأضواء على ميناء سنغافورة باعتباره من الموانئ التي تقف في طليعة الجيل الخامس، لوجدنا أن هذا الميناء الذكي يرتبط شجرياً بنحو (600) ميناء من الموانئ العالمية العائدة إلى (120) دولة، وازدحمت ممراته الملاحية بكثافة السفن القادمة والمغادرة، ففي عام 2011 بلغ مجموع الحمولات الإجمالية المسجلة GRT للسفن المتوجهة إلى الميناء أكثر بقليل من اثنين بليون طن.
ربما تكمن مشكلة المشاكل في موانئ هذا الجيل أن معظم ربابنة السفن الوافدة عليها يجدون معضلة كبيرة في التعامل مع الإجراءات الدقيقة المتجددة، فجاءت الحلول عن طريق الاستعانة بأكفأ المرشدين البحريين وأكثرهم مهارة، ففي كل ميناء من هذه الموانئ حوالي (250) مرشداً بحرياً، يعملون على مدار الساعة ويتلقون التوجيهات اليومية الصارمة، ويحملون معهم أحدث الأجهزة الملاحية.
لقد تكاملت في هذا الجيل خيوط الشبكات الملاحية العنكبوتية بين الموانئ المتآلفة في شرق القارة الآسيوية، وبخاصة بين الموانئ التي احتلت المراتب العشر الأولى في قمة التسلسل المعتمد في الجانب الشرقي من آسيا، والتي جاء ترتيبها حتى صيف 2013 بالشكل التالي: شنغهاي، وسنغافورا، وهونك كونك، وشنزهن، وبوسان، وكوانجزو، وننجبو، وكنجداو، وطوكيو، وياكوهاما، فتغيرت خارطة المسارات الملاحية المحورية بين موانئ شرق القارة من تفرعاتها القديمة المحدودة إلى مسالكها العنكبوتية الشاملة، أنظر المخطط العنكبوتي التالي:-
المثير للدهشة أن الصين وحدها تمتلك حصة الأسد في الشبكات العنكبوتية لموانئ الجيل الخامس ضمن الترتيب العالمي للمراكز العشر الأولى، وذلك استناداً على حجم التبادل التجاري المثبت في جداول عام 2012.
على المسار نفسه احتلت موانئ لوس أنجلس ولونج بيتش مراكز الصدارة بتفوقها الكاسح على الموانئ المنافسة لها في أمريكا الشمالية. خصوصاً بعدما تخطت حاجز الـ (8.5) مليون حاوية عام 2006، فكانت من أكثر الموانئ الأمريكية ازدحاماً وانشغالاً. وباشرت منذ عام 2012 باستقبال سفن الحاويات العملاقة التي زادت حمولتها على (12000) حاوية.
لقد أدركت موانئ نيويورك ونيوجرسي أهمية تخطي حواجز القفز فوق الموانع في اللحظات الأخيرة، واكتشفت أنها لن تكون قادرة على استقبال سفن الـ (Panamax) في العام القادم (2015) فالفضاء الملاحي لجسر (Bayonne Bridge)، الذي يعترض مسار تلك السفن يبلغ ارتفاعه الآن (151) قدماً، ويقف في طريقها المؤدي إلى محطات الحاويات الكبرى (أربع محطات)، فقررت رفع السقف الملاحي للجسر إلى مستوى أعلى قد يبلع (64) قدماً إضافياً، في مشروع جبار بلغت تكاليفه التخمينية حوالي (واحد بليون دولار).
والـ (Panamax) هو العرض الأقصى للسفن المسموح لها بتسلق أحواض قناة بنما، والكلمة جاءت من عبارة (Panama Maximum Beam)، وبالتالي فأن العرض الأقصى قد يكون في معظم التصاميم هو الدالة الرياضية لطول السفينة وارتفاعها. علماً أن مقياس الـ (Panamax) يتغير زمنياً كنتيجة منطقية لمشاريع التوسعة المستمرة في تلك القناة الملاحية.
من المفيد أن نذكر هنا أن موانئ الجيل الخامس هي التي رسمت خارطة التكامل الملاحي بينها وبين الموانئ الرافدية، وهي التي وضعت الأسس التي تحررت بموجبها سلطاتها المينائية من هيمنة التدرج الوظيفي (الهرمي) الحكومي، وصارت لها ميزانيتها المستقلة الخاصة بها، فانفصلت ارتباطاتها المالية تدريجياً عن ميزانية الدولة.
من المفارقات العجيبة أن الموانئ العراقية كانت تتمتع بالاستقلال المالي التام للفترة من عام 1958 إلى عام 1963، وهذا ما ساعدها على تبوأ أعلى المراكز العالمية في عصرها الذهبي عام 1962.
في الشبكة العنكبوتية التالية تتضح لنا صورة الارتباطات والتجمعات المينائية، وخسوطها التي تعكس المستويات الأربعة للعلاقات المينائية المباشرة:-
فالمستوى الأول (Level I) يمثل الشركات المينائية القابضة، بينما يمثل المستوى الثاني (Level II) محطات الحاويات التابعة للشركات البحرية المتحالفة، أما المستوى الثالث (Level III) المرسوم بخطوط متقطعة على شكل مربعات ومستطيلات فيمثل الشراكة الإستراتيجية بين أطراف المستوى الأول والثاني، ثم يأتي المستوى الرابع (Level IV) المرسوم على شكل منحنيات مغلقة ليمثل التكامل الشبكي بين موانئ الجيل الخامس، وتشير الأسهم إلى اتجاهات العلاقات المباشرة بين أقطاب الشبكات المتداخلة.
ختاما نقول: أن أهم ملامح الجيل الخامس هو التكامل الملاحي المرتكز على الإدارات المتعددة الجنسيات، والتدفق المعلوماتي المتبادل بين الأطراف المعنية بكافة الأنشطة المينائية، والتوسع الهائل في طرق النقل البرية والنهرية والجوية والبحرية بكل أساليبها وأنماطها وطاقاتها المتاحة، ومواجهة أقوى العقبات المينائية الصعبة. وانسيابية البضائع المستوردة والمصدرة من دون تلكؤ ومن دون تعطيل، والتمرد على التشريعات المحلية واستبدالها بالتشريعات العالمية التي أقرتها المنظمات البحرية الدولية.
بعد ولادة الجيل الخامس انشغلت الموانئ العالمية برسم الخيوط العنكبوتية المعبرة عن المسارات المتشعبة لخطوط الشحن البحري، ومسالكها المنطلقة من تلك الموانئ في كل الاتجاهات. وباتت المسارات الملاحية العنكبوتية هي البصمة التي تتفاخر بها موانئ الجيل الخامس، فلكل ميناء شبكته وبصمته وتطلعاته المستقبلية، ويظهر لنا الشكل التالي البصمة العنكبوتية لميناء لندن.